Mr. Nicholas Bou Shaheen

أيُّها الحضورُ الكريم،

لعلّه الموقفُ الأكثرُ صُعوبةً ... بل إنّه الأَصعبْ، إذْ لم يسْبِقْ لـــي أنْ تكلّمتُ على واحدٍ مِمَن تربِطُني بهم علاقةٌ تجاوزتِ الصَّداقةَ إلى أُخُوَّةٍ عميقةٍ تحكمُها المحبّةُ، نشأتْ، نَمَتْ وتوطَّدتْ أواصِرُها بيننا منذ أيَّامِ الطُّفُولةِ، وكَبُرنا، وزادت عمْقًا وثباتًا. فَلَهَبُ المحبَّةِ لم يزل متأجِّجًا.  لم يخبُ يومًا ولن.  وهل لمحبّةٍ مُتبادَلةٍ صادقةٍ خاليةٍ من أيّةِ مصالحَ أو منافعَ أو غاياتٍ أن تنقطعَ؟ حاشا!...

أسترجعُ في ذاكرتي شريطًا طويلًا من صُوَرٍ لا تنتهي وذكرياتٍ لا تُمحى عِشْنَاها معًا. مسرُحُها كان "الحارة" (حارتنا). ذكرياتٌ، بصماتُها منقوشةٌ على لوحِ القلبِ تَنْبُضُ مع نَبَضَاتِهِ... كلّما مرَّت ذكرى منها  في خاطري كان لي في مرورها عيدٌ يُنعشُ النَّفسَ فترتكضُ فرحًا ...


أيُّها الأكارِم،

"معاولُ الجَهلِ لا تُبنى بها دوَلٌ

بل يُصنعُ المجدُ بين الَّلوح والقلمِ"

إنّ المجتمعاتِ والأوطانَ لا تنهضُ ولا تُبنى سوى بأعمدةِ العِلمِ ولا تَشمَخُ سوى بسواعدِ العقولِ أو تستقيمُ سوى بميزانِ المعرفة. ومجدُها لا يُصنع  سوى بخلع رداء الجَهلِ  والسُّلوكِ في ساحات التَّعليمِ وميادينِ البحثِ ومنابرِ الفكرِ والمعرفةِ والثَّقَافةِ والفَنِّ... 

نقولا جورج غازي ربيبُ بيتٍ سلاحُه العِلمُ والقلمُ. بيتٍ لم يكن يومًا سوى مدرسةٍ في المحبَّةِ والقِيمِ الإنسانيَّةِ الرَّفيعةِ، والإيمانِ والتَّواضعِ، مدرسةٍ في  القانونِ، والأدبِ والشِّعرِ والفنِّ ...  وكيف لا، فَمِنْ "ثمارِهم تعرفُونَهم". بيتٍ كان له دورُه البارز في خِدمةِ هذه البلدةِ ومدرستِها، فكيف لنا أن ننسى جورج  غازي "أبو حنّا" (رحِمَهُ الله) في غَيرتِه ومحبَّتِه واندفاعِه للخدمةِ – لخدمةِ الجميعْ –  دون تمييزٍ ولو كان ذلك على حسابِ راحتِه وحاجاتِ أهلِ بيته؟

من هناك، من تلك "الحارةِ" الصّغيرةِ بمِسَاحتِها، الرَّحبةِ بقلوبِ أهلِها؛ من ذاك البيت، انطلق في رحابِ العالمِ الأوسعِ ليبدأ  "مِشوارَ العمر"، رحلةَ النَّجاحِ والتّفوُّقْ. مِن مدرسةِ بشمزّينَ العالية طالبًا طموحًا، إلى الجامعةِ الأميركيّة في بيروت طبيبَ عيونٍ متفوّقًا، ومنها إلى الولايات المتَّحِدَةِ الأميركيّةِ باحثًا متخصِّصًا، جرَّاحًا متميّزًا مُبدِعًا، إلى العملِ في عدّة مستشفياتٍ ومؤسّساتٍ طِبيَّةٍ عالميَّةٍ عربيَّةٍ ومحلّيّةٍ قائدًا فيها ورائدًا رافعًا من شأنها إلى أعلى المراتب.

استطاعَ أن يجمعَ ويوفّقَ في شخصهِ بين العلمِ والشِّعرِ إذ إنَّ التَّكاملَ بينهما (بين العِلمِ والشِّعْر) ليس مجرَّدَ ترفٍ، بل ضرورةٌ تعيدُ للعلومِ إنسانيَّتَها وتمنحُ الفكرَ جناحينِ: أحدُهُمَا من نورِ العقلِ والآخرُ من حُلُمِ الجَمَالْ. فحين يلتقي العالِم أو الطّبيبُ بالشّاعرِ يولدُ الِاكتشافُ المقرونُ بالإلهامْ... خَطِيبُنَا هو صاحبُ الرُّوح الّتي تَفيضُ رَهافةً تعكِسُ نبْضَ القلبِ وارتعاشاتِ الحنين ...

وفي ارتقائه سُلَّمَ النَّجاحِ والتَّفَوُّق، كان حريصًا، كُلَّما صَعِدَ درجةً من درجاتِ السُّلَّم، على أن يحفظَ نفسَه مَصُونةً مُحصّنةً بالإيمانِ.  فقد قرأ ورأى، بما مُنح من بصيرةٍ وحِكمةٍ وتمييزٍ، أنَّ تسلُّقَ درجاتِ السُّلَم للوصولِ إلى أعلى القِمَمِ، دونَه الكثيرُ من التَّجاربِ. لعلّ أخطَرَهَا أن يُضْطَّر الإنسانُ لبيعِ شيءٍ من نفسِهِ، عندها لن تكونَ القِممُ سوى سرابٍ... " إذ ماذا ينتفعُ الإنسانُ لو ربحَ العالمَ كلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ"؟

حَقَّ له أن يتفاخرَ بما منَّ بهِ اللهُ عليهِ من مواهبَ وعطايا، شأنُه، في ذلك، شأنُ أهلِ هذه الدُّنيا، (ولو كان لا بدّ مِنَ الاِفتخارِ في بعضِ الأحيان لغاياتٍ ممدوحةٍ كما هي الحالُ اليومَ في أمسيَّتِنا هذه). إنْ افتخرَ فافتِخَارُهُ ممزوجٌ بتواضعٍ خَفِرٍ وبشكرٍ متواصِلٍ لله على نِعَمِهِ وعطاياهُ، مدرِكًا ومتَذَكِّرًا على الدَّوامِ  القولَ الإلهّيَّ: "إنَّ كُلَّ عطيَّةٍ صالحةٍ وكُلَّ موهَبَةٍ كاملةٍ هي نازلةٌ من فوقْ من لدنِ أبي الأنوار".  تنظُرُهُ فتراهُ "كالنَّجمِ الَّذي يلوحُ لناظِرِهِ على صفحاتِ الماءِ وهوَ رفيعُ".

يا أحبّة،

ما أجملَ العودةَ إلى حِضنِ الأمّ وما أجمَلَهُ من لقاءٍ. لقاءِ إخوةٍ أحبَّةٍ جَمَعَهُمُ الحِضنُ الّذي أطلقَ الكثيرين منَّا، وما زال، في رحابِ هذا العالم لينثروا فيه بذارَ النَّجاحِ والتَّفوُّقِ والإبداعِ في المجالاتِ كافّة... مدرسةُ بشمزّينَ العاليةُ إنّها تلك الرَّحِمُ الّتي ولَدَتِ الكثيرينَ ولولاها لما كانوا على ما هم عليه اليوم ... وها واحدٌ من هذه الكوكَبةِ من البنينَ لم ينسَ البَدَاءاتِ حيث تعلَّمَ الحرفَ الأوّلَ ولا المقاعدَ الّتي احتَضَنَتْهُ. اليومَ يعودُ لا كطالبٍ بل كخطيبٍ. إنسانًا قبل أن يكون طبيبًا يحدّثنا بلغةِ القلبِ والعقلْ صَوتًا نابعًا من الماضي يحمِلُ دروسًا للحاضرِ ورسائلَ للمستقبلْ. ورُغمَ ترحالهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها بقيَ لِسَانُ حالهِ  أنْ ما من أرضٍ في الدُّنيا أحبَّ إليَّ من أرضِ وطني، وما من ترابٍ أقدسَ من ترابِ بلدتي بشمزّين.

أيُّها السَّادة، لا يتّسعُ بنا المقامُ للإحاطةِ بكلّ ما مُنِحَ خَطِيبُنا من مواهبَ ومَلَكات...

ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه قد تَمَّ اخْتِيَارُهُ  (منذ أسابيعَ قليلة) ليَشْغَلَ مَنصِبَ المديرِ الطِّبّي في واحدٍ من أهمّ المسشفيات المتخصّصة في طِبّ العيون:

Bascom Palmer Eye Institute

المصنَّفِ "الأوّل"  في الولايات المتّحدة الأميركيّة على مدى ثلاثٍ وعشرينَ سنةً متتاليةً ؛ إضافة إلى كونِه صاحبَ العديدِ من الأبحاثِ المتخصِّصَة الّتي تُنشرُ له في أبرز المجلّات والنَّشَرات الطِبيّة المعتَمَدةِ في العالمِ وله المئاتُ المتعدّدةُ من المحاضراتِ، وهو أيضًا طبيبٌ أكاديميٌّ محاضرٌ في عددٍ من الجامعاتِ ومساهمٌ في إعدادِ مناهجَ لطلّابِ كلّيّات طِبّ العيون.

الحبيب د. نقولا غازي، لن نُرَحّبَ بكْ، فالتَّرحيبُ إنّما يليقُ بالضُّيوفِ لا بأهلِ البيت؛ لكنّنا نَسْتَقْبِلُكَ اليومَ مُحتَضَنًا بفيضٍ من المحبَّةِ القلبيَّةِ كما تَحْتَضِنُ الأمُّ أبناءها بعدَ طولِ غِيابٍ إبنًا وأخًا حبيبًا بين أهلِك.

المنبر لك.

نقولا بو شاهين

مدرسة بشمزّين العالية

حفل تخرّج دفعة 2025

بشمزّين  31 أيّار 2025